ليس صحيحاً أن إيران بلغت الرشد السياسي بعد اتفاقها النووي مع الغرب، ولا أن نظامها انتقل من الثورة إلى الدولة، بل إنه ما زال نظاماً ثيوقراطياً قائماً على الأدلجة والتثوير.
من يتابع الخطاب السياسي والاعلامي الايراني في الفترة الأخيرة يلحظ عودة مفهوم "تصدير الثورة" بقوة إلى واجهة هذا الخطاب، حيث يلاحظ تجدد الحديث عن مفاهيم سياسية قديمة ارتبطت في ذهن المراقبين والمتخصصين بحقبة الثمانينيات وتحديدا خلال ذروة الفوران السياسي الايراني، وما رافقه من مساع حثيثة وقتذاك لتصدير الثورة وخطها الأيديولوجي والسياسي إلى دول الجوار.
الثابت أن مفهوم أو مصطلح "تصدير الثورة" يعد أحد إشكاليات العلاقة المعقدة بين إيران وجوارها الاقليمي منذ قيام الثورة عام 1979، حيث يرتبط بتحول إيران من دولة مدنية إلى دولة دينية ثيوقراطية الطابع، وما يعنيه ذلك من تحولات على صعيد العلاقات الدولية التي استقرت على شكل ونمط متعارف عليه للدول، واختفاء الدولة الدينية التي ترتبط في أذهان الجميع بقرون ماضية من العصور الوسطى في أوروبا، التي تسمى اصطلاحا بعصور الظلام.
مؤخراً، برز أكثر من مؤشر على تنامي الخط السياسي الايراني القديم الجديد، وصعود مصطلح "تصدير الثورة" إلى واجهة هذا الخطاب. ففي سياق الاحتفالات بذكرى الثورة الإيرانية؛ أعلن قائد فيلق القدس في الحرس الثوري اللواء قاسم سليماني أن "مؤشرات تصدير الثورة الإسلامية باتت مشهودة في كل المنطقة؛ من البحرين والعراق إلى سوريا واليمن وحتى شمال أفريقيا"، مستعيداً بذلك هذا المصطلح البائد من سراديب الخطاب السياسي الايراني بعد أن سقط من بين مفردات طهران وتصريحات قادتها منذ نحو عقدين أو أكثر، وما ضاعف من خطورة هذا التوجه أنه تردد على لسان أكثر من مسؤول إيراني كبير؛ ومن أبرز هؤلاء اللواء محمد علي جعفري القائد العام للحرس الثوري الايراني، الذي اعتبر أن "المقاومة اليمنية" قاصدا جماعة الحوثي تعتبر اليوم آخر إنجازات الثورة الايرانية وأن "الحوثيين يتخذون من الثورة الايرانية نموذجا لمقاومة النظام المستبد" وقال جعفري نصاً "إن مشروع تصدير الثورة الايرانية إلى الخارج يسير بشكل جيد، وإننا نشهد صحوة ومقاومة إسلاميتين".
ربما يرى البعض أنه لا جديد في حديث المسؤولين الايرانيين، وأن مثل هذه التصريحات ظهرت أيضا عقب الاحتجاجات الشعبية التي أسقطت الرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك عام 2011، وهنا نشير إلى أن طهران حاولت عام 2011 اختطاف موجة التغيير في مصر تحديدا لمصلحتها، مع دون الحديث عن تصدير الثورة بل اعتبرت التغيير مجرد سير على خطى الثورة الايرانية أو استنتساخ لها وهو ما رفضه المصريون جملة وتفصيلا وقتذاك.ويذكر الكثيرون الزيارة الشهيرة التي قام بها وفد الدبلوماسية الشعبية إلى طهران، حيث استقبله بحفاوة الرئيس السابق أحمدي نجاد، ثم جاءت كلمة رئيس الإذاعة والتلفزيون عزت الله ضرغامي في استقبال الوفد المصري لتكشف حقيقة نوايا طهران وتضع نهاية لتقارب لم يكن قد ولد بعد؛ حيث قال ضرغامي مخاطبا الوفد الزائر قائلا "إن الغرب يريد شراء ثورتكم بـ40 مليون دولار ونحن سندفع أكثر فهل ستقبلون ببيعها؟" ما اضطر إحدى الصحفيات من أعضاء وفد الدبلوماسية الشعبية المصرية إلى الرد عليه فورا مستنكرة هذا الكلام، بل إن الزيارة ذاتها كشفت عن الاستعلاء الحضاري الايراني وعدم فهم تاريخ المنطقة، حيث تسبب ضرغامي ذاته في استياء الوفد المصري حين استعرض في كلمته آليات كتابة الدساتير وكيفية تشكل الحكومات وبناء أنظمة الحكم استرشادا بالتجربة الايرانية في هذا المجال! ما أثار حفيظة الوفد المصري وغضبه من النظرة الايرانية لمصر، وله كل الحق لأن الجانب الايراني لم يراعي العمق الحضاري لمصر وتجربتها السياسية الضاربة في التاريخ.
المعنى هنا أن الخطاب السياسي الايراني خلال السنوات الماضية لم يكن يستخدم مصطلح "تصدير الثورة" بمعناه المجرد سيئ الذكر في التاريخ القريب والمعاصر لمنطقة الخليج العربي، حيث كانت طهران تنظر إلى عراق صدام حسين باعتباره امتداد للثورة الايرانية ثم انهارت هذه الأحلام منذ نهاية الحرب العراقية ـ الايرانية.
وعندما يتجدد ظهور هذا الخطاب التهديدي ـ العدائي على لسان قادة عسكريين بارزين مثل اللواء محمد علي جعفري القائد العام للحرس الثوري الايراني، وقاسم سليماني بما لهما من حضور طاغ في السياسة الخارجية الايرانية، بحكم قربهما الشديد من المرشد الايراني الأعلى علي خامنئي، فإن للحديث دلالات وأبعاداً لا يمكن القفز عليها أو تجاهلها، فقاسم سيلمان يكاد يرتقي إلى درجة البطل الأسطوري في اعين الشيعة المحافظين في إيران، فضلا عن دوره في توجيه ملفات السياسية الخارجية الايرانية المهمة في مشارق الأرض ومغاربها، أضف إلى ذلك تأثيره النابع من دور الحرس الثوري ذاته في الاقتصاد الايراني.
فالمقصود إذن أن الأمر لا يمكن التعاطي معه كتصريح عابر أو كلام للاستهلاك المحلي وتأجيج المشاعر والتلاعب بالعواطف وغير ذلك من أمور تتعلق بالشحن النفسي والتعبوي للجمهور الداخلي.
فالخطاب الرسمي لقاسم سليماني وجعفري لا يمكن التهوين من خلفياته وأهدافه، لاسيما في ضوء تصريحات تصب في إطار التصعيد ذاته مثل حديث محمد كلبايكاني مدير مكتب المرشد الأعلى الايراني علي خامنئي، والذي توعد فيه المملكة العربية السعودية بالسقوط قريبا بسبب عاصفة الحزم، وتوعد إياها قائلا "لن تمر هذه الحرب بسهولة على النظام السعودي وسينعكس ذلك على السعودية إذا استمرت" وقال كلبايكاني "قريبا سوف يتغير اسم آل سعود إلى آل سقوط"!
وأحد جوانب الخطورة في هذه التصريحات أنها تداعب عواطف وتدغدغ مشاعر الشيعة في بلاد عربية عدة، بل هي في أسوأ التقديرات تحريض مباشر على اثارة الاضطرابات والسعي إلى الصدام مع الأنظمة الحاكمة.
ربما يعتقد البعض أن إيران تتجه إلى نوع من الرشادة السياسية على خلفية توقيع اتفاقها النووي مع القوى الكبرى، ولكن هذا التحليل قائم على فرضية خاطئة، وهي أن النظام قد انتقل بالفعل من الثورة إلى الدولة، في حين ان الواقع يؤكد انه لم يغادر قط مربع الثورة، بل إن الأدلجة والتثوير وخوض الصراعات هي طابع الأنظمة الثيوقراطية الذي لا يمكن لها أن تتخلى عنه.
إيران بحد ذاتها حالة استثنائية على صعيد الموروث التاريخي لهكذا أنظمة، فهي تعاني من الداخل أشد المعاناة وهناك هوة واسعة متنامية باتت تفصل بين النظام الايراني والشعب، وهناك معاناة معيشية حقيقة جراء سياسات النظام وماجلبته من عقوبات دولية مقابل طموح امتلاك سلاح نووي، وبالتالي فإن الأقرب للتصور هو أن يتجه مثل هذا النظام إلى لعب ورقة تصدير الأزمات الداخلية، ولاينقصه سوى البحث عن مداخل وبوابات لاثارة الأزمات وخوضها، وعلى هذا الصعيد تبدو المداخل متوافرة وبكثرة وفي متناول يد طهران، وأقربها المدخل الطائفي او المذهبي، ولعب ورقة اضطهاد الشيعة في دول الجوار.
الخلاصة أن إيران قد تسعى إلى افتعال مواجهات عسكرية اقليمية خلال الفترة المقبلة، وقد لا يحول دون ذلك سوى تمسك دول مجلس التعاون بسياسة ضبط النفس وعدم مسايرة طهران في التصعيد الكلامي وتجنب السقوط في فخ المواجهة.