لم تكف إيران عن إطلاق تهديدات الانتقام منذ مقتل القائد العسكري البارز في الحرس الثوري الإيراني رضى موسوي في غارة إسرائيلية استهدفت منطقة السيدة زينب بالعاصمة السورية دمشق، حيث وعد الرئيس إبراهيم رئيسي بأن إسرائيل "ستدفع ثمن جريمتها"، بينما قال وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان أنه يتعين على إسرائيل أن تنتظر عدًا تنازليًا صعًبا، بينما أعرب المتحدث باسم وزارة الدفاع الإيرانية عن احتفاظ بلاده بحق الرد على اغتيال موسوي في المكان والزمان المناسبين، مضيفاً أن الرد سيكون "قاطعاً وفعالاً ومؤثراً وذكياً".
الشواهد تقول إن عملية اغتيال موسوي كانت تحركاً إسرائيلياً ينطوي على رسالة قوية لردع إيران، وقناعتي أنها رسالة محسوبة بدقة شديدة سواء من حيث اختيار وتحديد "الهدف"، أو التوقيت، ويمكن القول أنها رسالة "الضرورة" من بين الخيارات المتاحة أمام صانع القرار الإسرائيلي في ظل محاولات إيران فرض طوق حصار استراتيجي كامل على إسرائيل باستهدافها من جانب جبهات عدة (حزب الله اللبناني من الشمال، وحركة حماس الارهابية من الجنوب، وجماعة الحوثي اليمنية، والفصائل الشيعية العراقية، والجماعات الممولة إيرانياً من داخل الأراضي السورية)، وهو مايفسر استهداف موسوي، المعروف بأنه العقل المدبر لخطط نقل الحرس الثوري للأسلحة الإيرانية للأراضي السورية وبالتبعية "حزب الله" اللبناني.
تحليل الشواهد يقول إن إيران تسعى بشتى الطرق لتعظيم الضغوط على إسرائيل وبالتبعية الولايات المتحدة باستغلال جبهة حرب غزة، ولاشك أنها تتواصل مع قيادات حركة "حماس" الارهابية للتأكد من حدود قدراتهم القتالية والأفق المتاح أمامهم لمواصلة الاشتباك مع الجيش الإسرائيلي، حيث تريد إيران تحقيق أهداف عدة من وراء ذلك بعضها استراتيجي وبعضها الآخر عملياتي. حيث ترغب إيران في خلط الأوراق وإعادة رسم قواعد اللعبة في منطقة الشرق الأوسط وفق مصالحها الاستراتيجية، بما في ذلك وقف عملية تطبيع العلاقات بين الدول العربية وإسرائيل، فضلاً عن الضغط على الولايات المتحدة لسحب قواتها المتمركزة في سوريا والعراق ومنطقة الخليج العربي بشكل عام، وتعزيز النفوذ الإيراني في المياه الدولية الاقليمية عبر الوكيل الحوثي، ومحاولة فرض حصار بحري كلي أو جزئي على إسرائيل، والزج بها في أزمة داخلية وشغلها بأمنها الداخلى والطعن في قدرة جيشها على حماية شعبها ومن ثم استنزافها في صراعات وجودية مع الأذرع الميلشياوية وصرف أنظارها عن أي محاولات أو تفكير لاستهداف إيران ذاتها، أو التفكير في توجيه ضربة استباقية ضد منشآتها النووية، وهو التفكير الذي كان يطرح بين الفينة والأخرى من قبل اليمين الإسرائيلي المتشدد قبل هجوم السابع من أكتوبر.
السؤال الأكثر الحاحاً الآن هو: ماهو رد الفعل الإيراني المتوقع على اغتيال موسوي؟ في الجواب على هذا التساؤل يمكن الإشارة إلى أن إيران لم ترد ـ حتى الآن ـ بشكل واضح على اغتيال أبرز قادة الحرس الثوري الجنرال قاسم سليماني واكتفت بعمليات مشرطية محسوبة توازن فيها بين حسابات الرد والتصعيد مع الجانب الأمريكي، وبالتالي جاءت مجمل ردودها في هذا الإطار باهتة وغير مقنعة على الأقل مقارنة بتصريحاتها النارية والمكانة التي كان يشغلها سليماني ضمن تراتبية النظام. وبالتالي وقياساً على ماسبق، ومع الأخذ بالاعتبار فروقات الرؤية الاستراتيجية الإيرانية لكل من الولايات المتحدة وإسرائيل، يمكن القول بأن الرد الإيراني على مقتل موسوي سيكون مبدئياً عبر أحد الأذرع الموالية لطهران وليس بشكل مباشر، لاسيما في التوقيت الراهن حيث يتماهي الجانبان الأمريكي والإسرائيلي على خلفية حرب غزة، بشكل يجعل أي محاولة إيرانية للرد المباشر بمثابة دخول في مواجهة مفتوحة مع الحليفين معاً.
في ضوء ماسبق يمكن فهم القاسم المشترك بين تصريحات المسؤولين الإيرانيين وهو الحديث عن المكان والزمان المناسبين للرد، ما يعني أن الحرس الثوري يريد كسب الوقت اللازم للتفكير في الوقت والمكان والهدف، كما يلاحظ أن المتحدث باسم وزارة الدفاع الإيرانية قد أشار إلى أن الرد سيكون "قاطعاً وفعالاً ومؤثراً وذكياً"، وهذا يعني أن الأمر لا يرتبط على الأرجح بعملية عسكرية تقليدية، بل سيمضي وفق ما تراه قيادات الحرس الثوري على صعيد الأثر الاستراتيجي الفعال من دون المجازفة بفتح جبهة صراع مفتوح مع إسرائيل، أي أن إيران تتمسك بقواعد اللعبة السائدة حتى الآن، وهي البقاء ضمن حدود المسموح على صعيد الفعل ورد الفعل، أي القيام بعمليات محدودة التأثير دون الانتقال إلى مربع الصراع الواسع والمباشر، والتصرف على قدر الفعل، وهو أمر يناسب الطرفين الإسرائيلي والإيراني معاً على الأقل في ظل البيئة الاستراتيجية الراهنة، حيث لا ترغب طهران في خوض حرب مباشرة وتفضل البقاء ضمن دائرة الحرب بالوكالة، بينما لا قد تستطيع إسرائيل في الظروف الراهنة المقامرة بفتح جبهة صراعية جديدة مع مايمكن تسميته بمركز قيادة "محور المقاومة"، أي إيران وهي التي تواجه عمليات مستمرة من جانب كل أعضاء المحور في محيطها الجغرافي، حيث يمكن أن يفاقم قرار كهذا مستوى تصعيد الأذرع بما يهدد أن إسرائيل الداخلي ولاسيما على جبهة حزب الله اللبناني.
وفي إطار قراءة التفكير الاستراتيجي الإيراني وسيناريوهات الرد المحتمل على مقتل موسوي، يمكن الإشارة إلى تصريحات رئيس هيئة أركان القوات المسلحة الإيرانية اللواء محمد باقري الذي قال إن "الإسرائيليين ارتكبوا خطأ استراتيجيا" باغتيال موسوي، معتبراً أن إسرائيل تعاني مأزقاً صعباً، وأن التطورات الأخيرة في غزة أوصلت "الكيان المنبوذ إلى مرحلة لن يؤدي فيها أي عمل إرهابي وجنوني إلى إعادة أسسه المهتزة فحسب، بل ستقوم المقاومة بتضييق الخناق عليه أكثر من ذي قبل"، ما يعني استمرار الرهان الإيراني على الوكلاء سواء في ردع إسرائيل أو الرد عليها لاحقاً، وبالتالي يتوقع أن يكون أي رد إيراني على مقتل موسوي في هذا الإطار وعبر أحد هؤلاء الوكلاء او جميعهم.